ألفداء ( قصة قصيرة بقلم يوسف الياس متى )
************************************
كانت ألدقائق تمر علينا وكأنها ساعات طوال . ترى هل ستأتي ألساعة ألرابعة صباحاً .. ونحن لا زلنا نراقب عقارب ألساعة ألتي لم تتجاوز ألواحدة وألنصف بعد .. ترى هل سيمهلنا ألقدر هذه ألساعات ألباقية لإنتهاء مدة منع ألتجوال ألتي كتب علينا أن تحبس حريتنا فيها من ألساعة ألثامنة مساءاً بحسب ألأوامر ألعسكرية ألصارمة ... ترى هل بإستطاعتة ألتغلب على نوبات ألألم ألتي تجتاح صدره وكأنها إعصاراً مدمر .. ترى هل سيشفق هذا ألقلب على صاحبه ويرتاح قليلاً كي ترتاح معه ألعيون ألمتعبة من ألسهر ألمضني .. وأن ترتاح ألعقول أيضا من ألفكر ألمقلق ألذي يأخذنا لتصورات لا يحتملها ألبشر .
كنت أنظر إليه فلا أفهم معنى نظراته .. هل هي نظرات شفقة علينا أنا وأبنائه ألخمسة ألذي ليس بإستطاعتنا تحريك ساكناً أو حتى ألشروع بمساعدته , أم هي خوفاً وقلقاً علينا مما يخبئه ألقدر لنا إذا أصابه مكروهاً .. أم هي نظرات عتاب لأنه يتوقع منا عمل شيء قد ينقظ حياته
نعم إنها نظرات استغاثة , فألغريق يبحث عن قشة تحملها له ألأمواج ليتعلق بها عسى أن تكون بها نجاته .. ولكن كيف لنا أن نغيثه ونحن مسلوبو ألحرية ومشلولي ألحركة ..
وقطع عليّ تفكيري صوت إبني ألأكبر وهو يدعوني أن أقدم لوالده قرصا من ألدواء لربما يسكن أوجاعه ويقلل من حدة آلامه ويصبره حتى ألصباح .. كان سؤاله لي كوقع ألصاعقة آتاني من حيث لا أدري وأتوقع ليشل حركتى ويخرس لساني , فأنا على علم بنفاذ ألدواء منذ ساعات ألصباح وقد عهدت الى إبني ألأصغر مهمة شرائه من ألصيدلية ولكن لسبب ما لم يتمكن من إحضاره ولسوء حظنا إنشغلت عنه ولم أتذكر إلا بعد فوات ألأوان .وهروباً من هذا ألموقف وتستراً على ولدي كتمت هذا ألأمر وتظاهرت بعدم معرفتي بنفاذ ألدواء .. وجهت نظري نحو أحدهم وطلبت منه إحضار قارورة ألدواء رغم علمي بأنها فارغة لا تحتوي على شيء .. وبين صرخات ألوالد .. وتضرعات ألأبناء وصلواتهم وتهدئتهم لوالدهم بأنه لا خطر عليه وانه ما عليه إلا أن يصبر وتشجيعهم له بأن يتحمل ألألم حتى ألصباح جائني صوت ولدي معلنا أنه لا دواء في ألقارورة وأنها فارغة فتصنعت ألذهول وألدهشة وضربت كفاً على كف وأنا أتسائل ما بإستطاعتنا فعله .. ولم أسمع من أولادي ردا على سؤالي .. ولم أسمع منهم سوى كلمات ألعتاب وإلقاء أللوم عليّ .. مما دفعني إلى ألتهرب من إتهاماتهم محاولتاً إصلاح خطأ لم أرتكبه متجهتاً نحو ألباب بعد أن إلتقطت غطاء رأسي ألذي كان ملقاً على ألسرير بجوار زوجي .. نعم أردت ألتكفير عن ذنب لم أقترفه ليس بالكلام وإنما بالفعل وقررت ألمخاطرة وألخروج بأي ثمن ولو كلفني ذلك حياتي . فأنا أعلم يقينا مدى ألخطر ألكامن في ألخارج وألذي قد يطول كل من تسول له نفسه ألخروج من منزله وكسر أوامرهم ألعسكرية ألصارمة ,
وما أن فتحت ألباب حتى تعالت ألصرخات : الى أين , أين تذهبين في هذه ألساعة وألشوارع ملئانة بألجنود وخطر ألموت محدقاً بكل من يخالف أوامرهم . لم أكترث لصرخاتهم ولا لتوسلاتهم و وفتحت ألباب وإتجهت خارجاً فإنقض زوجي عليّ وجذبني من ألخلف وأخذ يجرني وهو يتوسل إليّ أن أعود فلقد تحسنت حالته وليس بحاجة بعد إلى ألدواء وبإستطاعته ألإنتظار حتى ألصباح , وبينما كان يحاول إقناعي بألعدول عن رأيي إنهار بين أيدينا وسقط أرضا , وبينما نحن نحاول إدخاله إلى ألمنزل سمعنا صوت زخات من ألرصاص تخرق ألسكون قريباً من منزلنا ولم نعرف ألسبب فهذا شيء تعودنا عليه في زمن ألإحتلال وتسارعنا إلى ألدخول وإغلاق ألباب خلفنا , وما أن مضت دقائق معدودات حتى سمعنا طرقات عنيفة على ألباب كادت تحطمه يصحبها صرخات شديدة تأمرنا بفتح ألباب بسرعة .
سارعت إلى أبنائي وطلبت منهم ألسكينة وألجلوس الى جوار وألدهم ألذي لا زال ملقاً على ألأرض ريثما أفتح أنا ألباب لهم .
وما أن فتحت ألباب حتى هرول ألجنود إلى ألداخل منتشرين بكل إتجاه .. حاولنا ألإستفسار ولكن أحدا منهم لم يعطنا ردا على تسائلنا وما هي إلا لحظات حتى وجدنا أنفسنا جميعاً نجلس على ألأرض تحت حراسة بعض ألجنود أللذين سددوا فوهات بنادقهم إلينا .. نظرت إلى أبنائي فوجدتهم أربعة فقط .. ترى أين ألإبن ألخامس .. خفت أن أسأل أخوته عنه فلربما يسمعني الجنود ويصروا على ايجاده فلربما إختبأ في مكان ما منتظراً إنصرافهم فكثيراً ما إختبا ألأبناء أثناء ألتفتيش .. أو ربما قد إقتادوه أثناء دخولهم لداخل ألمنزل لأرشادهم , أو يجعلوه ساتراًبشرياً إذا حاول أحد ألتصدي لهم,, وبينما تكاثرت ألتساؤلات في ذهني طلب منا ألضابط أن نقف جميعا فوقفنا ولكن زوجي لم يقدر على ألنهوض فإتجهت نحوه لأسنده ووجهت نظري الى ألضابط وطلبت منه متوسلتاً بأن يشفق عليه ويصنع معروفا مع رجلاً يصارع ألموت ويعفيه من ألوقوف.. إتجه ألضابط نحو زوجي ودون أن يتكلم أخذ ذراعه بيده وتحسس نبضه ووجه حديثه لأحد ألجنود بلغة لم أفهمها فإنطلق ألجندي مسرعا إلى ألخارج وما هي إلا تواني حتى عاد مع جندي آخر يحملان نقالة وسرعان ما وضعوه عليها وانطلقا به الى ألخارج بينما طلب منا عدم مغادرة ألبيت .. فتوجهت اليه طالبة ً منه متوسله أن أرافقهم فلم يمانع وسمح لي بذلك .
وفيما إنطلقت ألعربة ألعسكرية تحملني أنا وزوجي الى ألمستشفى حتى مررنا بمجموعة من ألجنود يتفحصون جثة ملقاة على ألأرض , وما أن إقتربت ألعربة حتى لمحته .. لقد عرفته من ملابسه .. انه هو .. نعم هو إبني .. ألآن فقط عرفت سر غيابه .. نعم لقد غافلنا وخرج كي يأتي بألدواء لوالده من ألمستشفى ألذي لا يبعد كثيرا عن منزلنا , ولكن ألقدر كان له بالمرصاد فنال منه , لقد قتل بألرصاص ألذي سمعناه , لقد كان هو ألهدف .. شعرت بقلبي يتمزق وألعربة تبتعد عنه دون أن يتسنى لي أن أضمه وأن أقبله .. كتمت دمعتي , وكتمت حسرتي كي لا يشعر زوجي بشيء ويتيقن للأمر فيكون ألخطر أكبر .
لقد قتل وفي نيته أن ينقذ أباه من ألموت .. لقد أنقذه فعلا فإن قدوم ألجنود كان بسببه .. فهو ألذي قادهم وبدون أن يدري إلى ألبيت كي ما يسعفوا والده .. لقد دفع حياته ثمنا غاليا كي ينقذ حياة والده .
تمت .